الجمعة، 1 يناير 2010

حالي.. وغزة

بقلم: د. عاطف الحديدي



كيف يستطيع القلم أن يعبِّر عن خواطر شديدة الحساسية، وقويَّة التأثير على النفس البشرية؟.. هل يستطيع أن يسطِّر الفارق بين الحكاية والمعايشة؟.. هل يستطيع أن يسطِّر الفارق بين البكاء تأثرًا برؤية أمر يهز الوجدان وبين توقف الدمع لأنك لا مفر لك من ذلك؟.. هل يستطيع أن يسطِّر حال شوق لقرب ما يحب وحاله وهو يحتضنه ولا وقت؛ لأنْ يتفحصه يملئ به العين والقلب؟.. كل هذه المشاعر وغيرها عايشتها منذ عام.



منذ عام وقع العدوان الصهيوني العربي على قطاع غزة، وأقول العربي لأن التواطؤ كان باديًا، وكان الوقت يمر وتزيد صور العمالة والتواطؤ ظهورًا لكل ناظر وعاقل، وبدأت التحركات الشعبية والنقابية تتفاعل، وها نحن أطباء واقفون أمام معبر رفح ممنوعون من عبور بوابته التي تذكِّرني ببوابة المعتقلات، وهي بالفعل كذلك لأبناء غزة وأبناء الوطن سواء بسواء، كانت المشاعر مصدومة.. كنا نشاهد ونحن صغار أو كبار لمشاهد وأصوات الحروب على شاشات التلفاز، وها نحن نشاهد ونسمع وفارق الشعور بين التلفاز والحقيقة آلاف المستويات من الشدة والزلزلة، وأشهد الله أنّي ما رأيت وما شعرت من أحد الموجودين والمتبرعين للمجيء بخوف أو وجل، وإنما همّة تزيد وهمّ يشتد.



أحب غزة.. ولكني لم أكن أحب أن أراها تعاني، أعشق ترابها، وأتمنى أن تكون ملاذي الأخير ومثواي، ولكني لم أستطع أن أقبله كما ينبغي، أو أن أحكي معه أو أستمع إليه.. كان الوقت ضيقًا لا يتسع لأن أتكلم أو أناجي.. كان الهمّ شديدًا والألم أشد.



الدخول إلى غزة كان مقايضةً على أرواحنا، وقبلنا.. اكتبوا إقرارات بعدم مسئولية الحكومة تجاهكم، وكتبنا... مررنا وفي أعينهم تمني بعدم عودتنا، وقَبِلنا.. مررنا وهم لا يكترثون إلا لأمن دولتهم، وأراهم صمًّا لا يسمعون أصوات القذائف، وعميًا لا يرون الجرحى يمرون من أمامهم.. ودخلنا، وسجدنا لله شكرًا، وتسقط بجوارنا قذيفة تتحرك من أثرها عربات الإسعاف، وكأنها تقول لنا: هم من خلفكم ونحن من أمامكم.. فأي قرار تأخذون؟.. وكان الرد صوتنا يردد الله أكبر.



غزة.. حفاوة لقاء كأننا مدد أرسله عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص لفتح مصر.. كانوا ثلاثة بثلاثة آلاف.. عاملونا هكذا.. نظراتهم لنا ليست كنظراتنا لهم.. هم مستبشرون بنا، ويتبارون في خدمتنا رغم محنتهم، ونحن أبصارنا معلقة بهم، نرى فيهم أبطالاً، وقلوبنا ترتجف بسؤالٍ خفي: هل سنقدر على المساعدة؟



غزة.. استأذنونا أن هناك مناطق أشد ضراوة في العدوان وتوزيعنا سيقتضي أن يذهب البعض منا إلى هناك، هم يستأذنوننا في أن نذهب أو لا حرج.. هم يخافون علينا.. هم يحاولون ألا يعرضوننا لخطر.



غزة.. مشاعرنا مصدومة.. جروح لم نرها في عمرنا، ولم نقرأ عنها في كتبنا، وموت لا يتوقف، وفي المقابل بسمة لا تنقطع.. عمل دءوب بين الضربات.. كنت في منطقة شديدة الضرب والقذف.. قذيفة كل عشر دقائق، قتلى وبعدها وجرحى.. وهم صابرون محتسبون.. هم منشغلون في أحوال مجاهديهم.. يلتفون حول أي جريح من المقاومة كأنهم يضعونه في أعينهم.. معادلة صعبة.



غزة.. بعد وقف إطلاق النار، نزلنا الشارع، لم نجد البكاء والعويل، وإنما صيحة "لا تخافوا علينا".. يقف الرجل بجوار بيته المهدوم وينادي علينا، ويصر أن نشرب الشاي معه يصنعه على بضعة أخشاب موقدة، وصوته يملؤه فرح بنا "أنتم وعد الله بالنصر لنا".. ما هذا الكلام؟.. في هذه المحنة ينظرون إلينا أننا وعد الله بالنصر لهم.. يقولون إن لكل نصر إرهاصات.. ونحن إرهاصات نصرهم.



أما نحن.. حين العودة.. لكل طبيب شهادة تقدير ومصحف وخريطة فلسطين.. ما هذا المعنى الذي يضعونه في صدورنا.. لقد فهمت المعنى، واستوعبت الدرس جيدًا، وصرت أنادي غزة وأقول: حالي.. حال غزة.

ليست هناك تعليقات: