الأربعاء، 19 نوفمبر 2008

كونوا عباد الله إخوانًا

بقلم: د. أنور حامد




يقول الإمام البنا رحمه الله: "أيها الإخوة.. ميدانكم الأول أنفسكم؛ فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن عجزتم فأنتم عما سواها أعجز".



والثقة تعني اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه؛ اطمئنانًا عميقًا يُنتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة.. ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾ (النساء)، والقائد جزءٌ من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلّبها على ما يعترضها من عقبات ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ..﴾ (محمد).



لا شك أن من أخطر الوسائل التي يلجأ إليها أعداء الدعوة أن يفتِّتوا هذه الدعوة من داخلها؛ حتى لا تواجههم إلا وهي مفرَّقة ممزَّقة، وأهم ما يُعينُه على ذلك فقدان الثقة بين الجنود والقائد، فإن الجنود إذا فقدوا الثقة في قيادتهم اهتزَّ في نفوسهم معنى الطاعة، وإذا فُقدت لم تعد هناك قيادة ولا جماعة.



فإذا استشعر أحد الإخوة في نفسه موهبةً أو ملكةً لم تكن عند قادته لا يلزم لكي نولي القائد ثقتنا أن يكون هذا القائد أقوى وأتقى وأعلم وأفصح الناس، فذلك مطلب عسير، ولا نحسبه تحقق إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكفينا أن إخوانه اعتبروه أقدرهم على حمل هذه الأمانة الثقيلة فكلفوه بها.



فلتوضع هذه الملكة تحت تصرُّف القيادة حتى تكون عونًا لقائده، لا حربًا عليه وعلى الجماعة.



ويختتم الإمام هذا الركن بقوله: "والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات"، ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه هذه الأسئلة ليتعرف على مدى ثقته بقيادته:

1- هل تعرَّف إلى قائده من قبل ودرس ظروف حياته؟

2- هل اطمأن إلى كفايته وإخلاصه؟

3- هل هو مستعدٌّ لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة- في غير معصية طبعًا- قاطعًا لا مجال فيها للجدل ولا للتردّد ولا للانتقاص ولا للتحوير مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟!



ويختتم الإمام هذا الركن بهذه الأسئلة:

* هل هو مستعدٌّ لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب، إذا تعارض ما أمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي؟!

* هل هو مستعدٌّ لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرُّف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟

بالإجابة عن هذه الأمثلة وأشباهها؛ يستطيع الأخ الصادق أن يطمئن على مدى صلته بالقائد، وثقته به، والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾ (الأنفال)، وهذه الأخوَّة ليست معْلَمًا من معالم الإخوان فحسب؛ إنما هي معلم من معالم الإسلام ذاته؛ فمن تأمل قول الحق سبحانه لحبيبه في محكم التنزيل ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، وقوله ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، لأدركت قيمة هذه الرابطة لبناء هذه الأمة.



فهذه الدعوة فكرة يجتمع الناس عليها ويلتفون حولها؛ لا سلطان لأحد على أحد غير سلطان الأخوَّة والحب في الله، وبدون هذه الأخوَّة لا جماعة ولا أمة، فرابطة الأخوَّة هي سر عبقرية البناء لهذه الدعوة، ولهذا نجد الاهتمام البالغ من النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرابطة بين أصحابه؛ فهو تارةً يوجّه "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويتفقَّد أصحابه ويسأل عنهم ويغضب حين يعلم بغياب أحدهم لمرضه دون أن يعوده أحد فيقول: "أيمرض مريضكم ولا تعودوه ويموت ميتكم ولا تعرفوه"، مستنكرًا هذا التصرف عليهم، ويوجه إلى الامتناع عن كل الأسباب التي تؤدي إلى خدش هذه الرابطة العظيمة فينهى عن الترويع "ولا يُشِرْ أحدكم لأخيه بحديدة"، ويغضب حين يصدر من أحدهم لفظ غليظ "يا ابن السوداء"، فاعتبر هذا من أخلاق الجاهلية التي لا تصحُّ بين المسلمين، ولما علم بما حدث من اثنين تكلَّما غيبةً في عرض أحد المسلمين أرسل إليهما ليوقفهما على فداحة الأمر، فجمع الناس وأرسل إليهما وأمرهما أن يأكلا من جيفة ميتة، فعجبا واستصعبا الأمر، وشقَّ ذلك عليهما، والناس ينظرون وينتظرون ما سيحدث؛ فإذا بالمعلم والمربي يعطي الدرس لهما وللجميع: "لئن أكلتما من هذه خير لكما مما أكلتم آنفًا"؛ يعني من عرض أخيهم؛ لأنه يعلم ويدرك جيدًا أثر هذه الأشياء على هذه الرابطة، كما أن هذه الرابطة من أهم عدد النصر والثبات ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 46).



لذلك جعلها النبي من أهم وأقوى روابط الإيمان "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، وكان يسعى إلى كل ما يقربهم منه ويقربهم من بعضهم البعض، فيمتدحهم ويصفهم بما تتوق النفس إليه وينشرح الصدر له فيقول: "أمين هذه الأمة.."، "لو كان نبيًّا بعدي لكان.."، "من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة..".. إلخ، وتارةً يشبِّههم بالأنبياء حتى يصف أحدهم حالهم مع النبي فيقول: "كنا نجلس معه كأن أرواحنا تحلّق في السماء".



هذه الروح الإيمانية العالية التي امتزجت بصفاء النفس ورابطة الأخوَّة فصنعت قصصًا من الحقيقة أشبه بالخيال.. فهذا الجندي الذي لا ذكْر له في التاريخ ولا يعرف اسمه حين يفقد قعبه في النهر فينزل الجيش كله ليبحث عن القعب في منظر عجيب؛ أثار دهشة الأعداء من قوة الترابط والحب، فكان سببًا في هزيمة الأعداء, ولا يتهاون لحظةً في أمر يهزُّ هذه الرابطة ويُضعفها؛ فيغضب أشدَّ الغضب حين يتواعد الناس في المدينة للحرب لفتنة أوقدها أحد الحاقدين؛ فيهرع إليهم ليطفئ نار الفتنة "دعوها فإنها منتنة أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم".



ويقف يوم حنين ليردَّ على المعترضين على توزيع الغنائم, وما تركهم حتى رضوا ".. أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم برسول الله" حتى قالوا: رضينا.. وهدأت النفوس.



حقًّا إنها دعوة تأليف القلوب "ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف"، فتمسكوا بهذه الرابطة، وحافظوا عليها، عضُّوا عليها بالنواجذ؛ فهي سر القوة والبقاء، وخذوا العبرة من القادة الذين نافقوا حكامهم في وقت الرخاء وخانوهم وسلَّموا البلاد للأعداء يوم الوفاء.

هناك 3 تعليقات:

رابطة هويتي اسلامية يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد تم نشر توصيات الجلسة الاولى

نرجو زيارة الرابطة للإطلاع عليها

اوعى تفكر يقول...

جزيتم خيرا

وليد يقول...

ربنا يتقبل جهدك ويجعلك ممن يفك على ايديهم حصار غزة